السلام عليكم
حصاد السوس
...نظرت العجوز خالتي "خيرة" بمكر إلى حفيديها " صالح" وأخته " سعاد" ،
وهي على مفرش الموت ، ثم نظرت إلى الصندوق الخشبي الصغير الذي في حجرها الكئيب، وهي تحتضنه بين يديها الهزيلتين كمحراك الفريك المحمص الذي تعدّه من حصاد قمحها كل سنة ، لتبيعه لتجار الدوّار الذي تسكن فيه.
كانت أصابع يديها ذات العروق الخضراء الظاهرة من تحت جلد أفعى، بل تشبه أيدي ساحرة وهي تنبش أحد القبور في ليلية أتمّ البدر فيه كماله، تلامس الصندوق وتتمتم بطلاسم غريبة كأنها تستحضر أحد الجان، التي تعوّدت لقاءهم في هذيانها الأخير..نقودي ورأس مالي...ذهباتي أساوري...وهي تشد الصندوق بقوة إلى صدرها الهازل ،المختّم بوشم طير جارح في قفص الساحرة..
ثم نظرت لحفيديها بلؤم ...وقالت :إإيه ياسراقين أجئتما لتأخذا عرقي طول هذه السنين؟...لقد أخبروكم في المدينة أني أحتضر؟؟...وأباكم البخيل رجع من المهجر وإلا مازال يتسكع في الحانات هناك؟...ذهب وتركني في الدوار بعد موت أبوه...كان سكير ماكر أراد بيع الأرض ويسافر للمدينة...طردته من الدار ومن القرية...كان لئيم يسرق من مالي وينفقه على أولاد إبليس ونساء المدينة.
زرع مسوّس خرج من رحمي...وأبوه شيخ من الأعيان " الله يرحمو" ،غدر بيه لما كبر وهان صومعته بين الجيران والعديان..ومات بحصرتو مسكين ..رحل وتركني لعاق والديه لايرحم ولايخاف ربي ...ثم صرخت فيهم : لما تنظرون لي هكذا وجوهكم وجوه فقر مثل أمكم... هي السبب نعم هي السبب في هلاك إبني
إمرأة عاهرة من المدينة، سرقت قلبو من جوفه، أعماتو بجمالها ولسانها.. لقاها في حانة مع كلاب كيفو، أسكن معاها في دارها بلا عقد في الحرام..جاني خبرو
زدت في الحسرة ...جاءني نهار في خريف حاب يأخذ دراهم المحصول ويسافر
به لبلاد الكفار...إإيه ياحسرتي جابكم معاه ،وقالي :أولادي في إثنين راني عقدت عليها بالحلال...وراها تابت وعادت زينة النساء في الجيران... وراح نقري أولادي أحسن قراية ونطلعهم علماء من الكبار... أعطيني رزق أبي نكمل حياتي في الحلال، نسافر للخارج ونزيد راس المال...
ثم هشّت بالبكاء والنحيل: وليدي حاب يسرق يماه حية...طردتو طردة الكلاب وخرجتو من حياتي لهذ النهار... أهل الدشرة يسموني خيرة السحارة ، مجنونة
الدرهم والدينار...أخذت مال نساء المكارات كل وحدة حابة تسحر زوجها تحجبلو عينيه هذي غيرة المرأة...وبنات بايرات تحب تسحر ولد الجار ...إإيه حضرت جنود الجان لداري...هم عزوتي في ووحدتي طول النهار...
ثم صرخت في وجوههما ثانية " صالح" أيها البائس جيت تكمل سرقة باباك...وانتي " ياسعاد" أفعى مثل يماك حبيتي تخطفي الصندوق مثل أخوك...وصرخت وهي تشد الصندوق العتيق: الله يلعنكم ...أخرجوا من داري ...أخرجوا...وهي تصرخ بقوة...لصوص في داري...ياجيراني لصوص...
هنا أخذ "صالح" هاتفه المحمول وقال: ألوو رئيس المصحة أنا الدكتور صالح من فضلك هيأ لنا سرير في المستشفى ، لدينا حالة هيستيريا إنهيار عصبي أشبه بالجنون لإمرأة مجنونة طاعنة في السن من الدوار...وأشار لأخته بعد أن حقنت "خيرة " سم مخدركالجردان، وهي تنظر إليه: أما أنتي سوف ترافقيها للمستشفى وتكون في رعايتك كطبيبة أعصاب ،هذي أول حالة لك بعد التخرج...وإستطرد الحديث مع أخته الماكرة في زي ملائكة من السماء: سوف يكون مشروعنا جاهزا عمّا قريب...
وضحك ،ضحكة الذئب المفترس على نعجة جرباء من القطيع المتشردة، وهو يقول: لي جدة تنام على كنز ولم نعرف هذا؟؟...هو إرث أبي ..نعم نعم هو لنا ..
ويضحك ..لست بحماقة أبي استسلم ورحل...واكمل ضحكته الهيستيرية...
كأنه على مسرح أوبرا بموسيقى صاخبة...وصوته كالبوم وهي تحوم على فريسة لما ترى جردان الحقول ،بعيونها الحادّة...أجل"سيكون لي مستشفى خاص بي للمجانين"...وأكمل ضحكاته المتتالية في تلك الدار.
والله الموفق دائما