نظرة عامة عن طراز الروكوكو

واكب ظهور طراز الروكوكو خاتمة عصر الحق الإلهي للملوك الذي ظلّ مُسيطراً على أوربا طوال القرن السابع عشر. ولم يلبث هذا الطراز أن غدا ظاهرة شائعة انتقلت من بلاطات الملوك والأمراء إلى كافة أنحاء أوربا، وامتد إلى كافة مظاهر الحضارة، ومن بينها إخراج الحفلات والمهرجانات والكونسيرات والعروض المسرحية الفخمة، فنشط مصمّمو المناظر المسرحية لتقديم عروض درامية جديدة، وتضافرت جهودهم لتوحيد عناصر هذا الفن. وشاعت العروض الرامزة والكرنفالات والمواكب والحفلات الراقصة والتنكّرية التي كان يشارك فيها الحكام، وتأثّرت الزخارف داخل القصور بالأنماط الشرقية مثل السرادقات اليابانية والأزياء التركية، وإذا أهل هذا القرن يتسابقون نحو السفر والترحال، وغدا الاتجاه الاستشراقي أحد السمات التي أخذ بها فنانو الروكوكو الذين اتجهوا إلى محاكاة الزخارف الصينية( Chinoiserie كلمة فرنسية الأصل يقصد بها الفن الذي ابتدعه الأوروبيون يحاكون به الصيغ الفنية الصينية، وترجع نشأته إلى القرن 17 إلى أن بلغ أوج ازدهاره مع عام 1750. وكان أكثر ما شاع هذا الفن المحاكي للصيغ الزخرفية الصينية في فنون الخزف والأثاث وورق الحائط والتنسيق الداخلي. وكان هذا الفن جزءاً لا يتجزأ من مقومات تصوير زخارف طراز الروكوكو (م. م. م. ث). التي وجدوا فيها أشكالاً قريبة من أذواقهم المولعة بكل ما هو جذّاب جدير بالتصوير مثير للخيال المغذّي للحس الفني، وكل ما يشبع نزواتهم مما هو لطيف محبّب من الناحية المعمارية. أما طراز الروكوكو الإنجليزي فلم يكشف عن هذا النمط "الإكزوتي" إلا في طراز الأثاث المعروف باسم مصمّمه تشيبنديل Chippendale.
وثمّة مظهر آخر لطراز الروكوكو مستلهم من حفلات الطبقة الأرستقراطية هو الحرص الشديد على اقتباس نموذج الحياة الأركادية(2) Arcadia أركاديا اسم إقليم ساحر في شبه جزيرة المورة باليونان أطلقه فرجيل في شعره الرعوي على البيئة الزاخرة بالطمأنينة والسكينة خلال العصر الذهبي "المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية". د . ثروت عكاشة لونجمان 1990= "م. م .م . ث". ، وهي الحياة المثالية البسيطة التي كان يحياها الرعاة والراعيات والساتير والحوريات وغيرهم من الشخصيات الأسطورية في البيئة اليونانية الرعوية الخلابة، فإذا أسلوب الشعر الرعوي يعود من جديد، وإذا جمعيات تنشأ في فرنسا تدعى "جمعيات الحب" Societes d`Amour تحمل أسماء مختلفة مثل "أكاديمية الغزل" و"جمعية عسل النحل" و"جمعية أفروديتي"، كما شاعت قصائد الشعر ذات الموضوعات الأركادية أو المقتبسة عن كتاب "مسخ الكائنات [التحولات]" للشاعر أوفيد، وأتاح هذا الاتجاه ظهور موضوعات عديدة استلهمها المصوّرون - لا سيما بوشيه - من ظروف المجتمع، فإذا الحب يغدو أحد الموضوعات الشاعرية المميزة لطراز الروكوكو التي شاعت في التصوير الرعوي والريفي فوق لوحات صغيرة ذوات أطر من الخشب المحفور بدقة وإتقان. وهكذا ألهم موضوع أركاديا الرعوي جيلاً كاملاً من الفنانين في سائر أنحاء أوربا وبخاصة مصوري البندقية. ومنذ مطالع القرن الثامن عشر بدأ لفيفٌ من المصوّرين يُعرض عن آلهة الإغريق الكبار قانعاً بالرمز إلى الغزل من خلال شخصيات مثل ديانا وفينوس وكيوبيد إلى غير هذا من الأساطير الكلاسيكية التي أعانتهم على الإفصاح عما يجول بخلدهم في هذا المجال. وبمرور الوقت أصبح موضوع الغزل أشدّ صراحة والتصاقاً بالموحيات الحسّـيّة مصوِّراً المواقف البورجوازية المشابهة للمواقف الأسطورية، فإذا الزوج المُسن يبدو سادراً في النوم بينما تمدّ زوجته الشابة يدها برسالة إلى عشيقها، أو نشهد قبلة مقتنصة وراء باب مقصورة الأوبرا، أو شاباً متيّماً يسترق النظر إلى محبوبته العارية في حمامها، أو أحد الرعاة معابثاً وجه صبيّة حسناء مستغرقة في سبات عميق.
وهكذا تجلّت أكثر مشاهد الحياة اليومية أُلفة وخصوصية في هذه اللوحات المصوَّرة وكذا في الصور المطبوعة بطريقة الحفر على الحجر أو الخشب أو الأسطح المعدنية، تلك الصور التي بدأت في الظهور بالعديد من الكتب التي تعدّ من بين روائع القرن الثامن عشر الخالدة حين أمست مخادع النوم مسرحاً لمبتكرات فنية جانبت فضيلة الحياء ولم تعد تحفل بغير متع الحواس. وجاء هذا التيار منسجماً مع روح العصر، فإذا فن المسرح يضيق هو الآخر بوقار القرن السابع عشر، وإذا فنانو الروكوكو يتناولون في أعمالهم "الصلات الحميمة" بأصرح مظاهرها الحسّية في أناشيد مهداة إلى الطبيعة عمادها التحرّر.
كذلك كانت ثمّة عودة ملحّة في مجاليْ التصوير والنحت إلى الموضوعات الباروكية التي أعلت من شأن المسيح وأمجاده السماوية، فإذا المشاهد يلمس هويّة الروكوكو الحسّية الحميمة في أعمال الفنانين حتى بين أوسعهم ذيوع صيت. تشهد على ذلك لوحات تييبولو في البندقية ولوحات ماولبرتش في النمسا ومنحوتات جونتر الخشبية في بافاريا بألمانيا.
وفي مجال العمارة الدينية التي وإن لم تتأثّر كثيراً بزخارف الروكوكو الزاخرة بالخطوط اللولبية المنحنية والمستلهمة من المحار والصَّدف المروحي الشكل إلا أن ثمّة تغييراً لحق بعناصرها الباروكية فغدت أكثر انطلاقاً نحو التحرّر. وبدأت قاعات الكنائس الكبرى في جنوب ألمانيا تستوحي زخارف صالونات الدور الموحية بالأناقة والجمال والرشاقة وفق نسق البيوتات الأرستقراطية كالقاعات المزّينة بالمرايا والمدافئ والأسقف المزخرفة بصيغ الأرابيسك. وعلى هذا النهج كان المناخ الروحاني الذي نشأت في أحضانه وتطوّرت معه صور شخوص طراز الروكوكو بفرنسا أولاً ثم في أوربا، بعد أن حطّم التطور الذي طرأ على الثقافة والأدب والفن والفلسفة والموسيقى والأسس العلمية الأوربية الحواجز التي كانت تفصل عالم الروح عن عالم الحواس على خلاف الفن الباروكي السابق عليه.
ولقد تجلّت أهمية الفرد في فن عصر الروكوكو في عدد لا يُحصى من الإنجازات الفنية لمئات من الفنانين المُبدعين الذين وفّر لهم المناخ الاجتماعي المتحرّر الرعاية والحماية، باستثناء أقاليم معيّنة مثل نابلي والبندقية وغيرهما من المدن الإيطالية التي تبلور فيها طراز التصوير الباروكي ورسخت دعائمه وفقاً لتقاليد القرن السابع عشر بما جعل تبنّي طراز الروكوكو أمراً محفوفاً بالصعاب. ومع ذلك ظهر بها نفرٌ من الفنانين الثوريّين المؤمنين بضرورة التغيير، كما أشاع "المصوّرون البنادقة الرحّالة الدوليون" في سائر أنحاء أوربا خلال العقد الأول من القرن الثامن عشر مفهوم التصوير الرشيق النّضر المفعم بالحيوية ذي التصميمات السَّـلِسة المنسابة الجذّابة والمعبّرة عن مباهج الحياة، فإذا بللجريني وريتشي وغيرهما يستخدمون صيغاً خاصة بهم قريبة الشّبه من تلك المستخدمة بفرنسا فرضوها على أوربا إلى أن بلغ القرن الثامن عشر منتهاه.